الجمعة، 4 يناير 2013

ريفيو ديوان " قبور واسعة " لعماد أبو صالح


ثورة

، يومًا،
أن ثار الناس
، على الملك،
في مدينة قديمة.
كان ملكًا ظالمًا.
"ديكتاتور"
كما نقول نحن
، في لغتنا،
في هذه الأيام.
هجمت جموع الشعب
في لحظة واحدة:
فلاحون بظهور محنية
)نفعت في حمل الأشخاص
الذين تسلقوا الأسوار(
و عمال مناجم
(كانوا الأقدر

على تحمل غبار الزحف(
و متشردون
)حين قُتلوا، لم يكن لهم أهل
يعكرون فرحة النصر
ببكائهم(
و عاطلون عن العمل
(كأنهم كانوا يدخرون قوّتهم
طول السنين الماضية (
اللصوص
ثاروا بشرف
رغم أن أيديهم
كان يمكن أن تمتد بسهولة
لجيوب الثوار
في الزحام.
و المجانين
كسروا أبواب البيمارستانات
و تعالت حناجرهم
بهتافات هيستيرية
إذ أصبح جنونهم
، لأول مرة،
محل احترام حقيقي.
فقط
مرضى الجذام
انتهزوا الفرصة
و قبّلوا الناس
بشفاه متآكلة
لكن
لا أحد دفعهم بعيدًا
و لا بصق قبلاتهم.
متسولة
، برجل مقطوعة،
مكومة جنب حائط
صرخت فيهم و هي تغالب الدموع:
"إيه يا أولادي!
ألست ابنة هذا البلد؟
تخافون أن أوسخكم؟".
فتسابق ثلاثة شبان
(أي روح)!
لحملها فوق الأكتاف.
ربطتْ خرقة
، لئلا تكون عالة،
في عكازها
شاء الله أن تكون الراية الوحيدة
التي فشل في إسقاطها
رماة السهام!
مرت الثورة على حديقة
فجرفت معها الأشجار.
غير أن الأشجار
، و هي تسير معهم،
كانت تغني
، بعصافيرها،
أغنيات لأجل الحرية.
كانت ثورة مثل وحش
عانى سنوات طويلة
من الجوع.
أكلت
، في طريقها،
كلابًا و قططًا.
أكلت أطفالاً
حاولوا تقليد آبائهم
بسيوف خشبية.
أكلت ناسًا منها
حين اختل توازنهم
و سقطوا تحت الأقدام.
العجائز الطاعنون في السن
هم الذين امتنعوا عن المشاركة
في ذلك اليوم.
كانوا يبتسمون و يقولون:
"الملك!
نحن أيضًا كنا شنقناه
على شجرة ضخمة
في حديقة قصره".
كان المشهد هو نفسه.
كأن الزمن لم يمر.
حتى أن عجائز منهم
اختلط عليهم الأمر:
هل هم الذين يتفرجون في الشبابيك
بأيدٍ مرتعشة
أم الذين يصرعون الحراس
، هناك،
في مقدمة الصفوف؟

* * *

حرية

كل ليلة
، منذ سنين لا يعرف عددها،
يتكوم في ركن
، على البلاط،
و يحلم.
زملاؤه
، في الزنزانة،
يعاملونه بعنف
لأن ابتساماته المتقطعة
تبرق في الظلمة
و تقلق نومهم.
يركلونه بأرجلهم و يقولون:
"وراءنا تكسير أحجار في الصباح
كُف عن هذه السخافات
التي لا تتحقق أبدًا".
إنه لا يحلم أحلامًا كبيرة
كأن يدق باب البيت
و يقبّل أطفاله
فقط، يريد أن يشم دفقة هواء
لم تُدمِها أسلاك السور
لحظة عبورها إليه.
أن يلمس هذه الشجرة
التي يتعلق في حديد النافذة
، بيديه النحيلتين،
ليراها.
أن يكلم الله
، وجهًا لوجه،
في فضاء واسع.
"سأخنقها و أريح نفسي
أنا أتعب في تربيتها
ثم تطير
، وحدها،
و تنساني".
يقول هذه الكلمات
من يأسه
لكن ما أن يجيء الليل
حتى يحلم مرة ثانية.
في يوم رأى الباب مفتوحًا.
لا بنادق
و لا كلاب
و لا حراس.
هو نفسه لم يكن يعرف
أكان ذلك حقيقة
أم في حلم!
فرد ذراعيه و جرى
جرى بأقصى ما لديه من سرعة
بما سمحت له مفاصله
التي أكلها الروماتيزم
لكنه
توقف فجأة.
كانت الشمس ساطعة
و السماء كبيرة
و الحقول خضراء
أحس نفسه وحيدًا
و ضائعًا
و مفضوحًا في النور.
ضرب قبضته في الهواء
و عاد
محني الرأس
و بخطوات بطيئة.
هناك
، عند الباب،
زملاؤه كانوا ينتظرونه
لم يسخروا منه
واحد أشعل له نصف سيجارة
و واحد ضربه بحنان على كتفه
و واحد أعطاه فأسًا و مقطفًا.
حتى سجناء الزنازن الأخرى
تظاهروا بأنهم لا يرونه
لئلا يشعر بالحرج.
على الجبل
، فوق،
لم يكن يراهم في الغبار
لكنه اكتشف
، لأول مرة،
أنهم يحضنونه بقوة
بالسلسلة التي في أرجلهم.
اكتشف أنه
، بدقات فأسه،
عازف إيقاع
يجعل غناءهم أكثر عذوبة.
في المساء
حملوا الفؤوس على الأكتاف
و مشوا كأي عمال
عائدين للبيت
من العمل.
كل عدة خطوات
يحكي أحدهم نكتة
و ينفجرون ضاحكين.
الحراس
، بمرور الوقت،
تركوا الباب مفتوحًا
واثقين انهم لم يعودوا
يفكرون في الهرب.

* * *

حب

أميرة
، من زمان قديم،
قالت لأبيها الملك:
"سمعت ان هناك شيئًا
اسمه الحب
اشترِ لي منه".
هرش الملك ذقنه
ثم قال للحكيم:
"علِّم مولاتك الحب
أنا آمرك".
هذه رسالة يا مولاتي
(كان الحكيم يقول)
كتبها عاشق
، بدمه،
لحبيبته.
هذه قطة تنظف
، بلسانها،
فروة ابنتها.
هذه فراشة تحمل قبلة
من وردة لوردة.
أشار، يومًا، فجأة
و هو يمشي معها
، متنكرة،
في طرقات المدينة:
"انظري هذا الصياد
الصياد الفقير هناك
انظري.. انظري
يحضن امرأته
، في القارب،
تحت المطر".
صرخت فيه الأميرة:
"أنا تعبت، لا أريد أن أتعلمه
أريده جاهزًا، قل لي أين هو".
ابتسم الحكيم و قال:
"في القلب، يا مولاتي، في القلب".
الذي حدث
، هذه الليلة،
أنهم أقاموا في القصر
حفلة كبيرة.
كانت هناك قلوب مشقوقة
و رؤوس قطط
و ورود تعوم في الدم.
وحدها
، الفراشة،
حاولت أن تفر.
أفلتت
، بجناحين مرتعشين،
و طارت لأعلى
لكن السياف أقفل الابواب
و فتّشها بظفره.
جسمها الرقيق
لم يكن يستحق
عناء ضربة سيف.
الأميرة
كانت جالسة على كرسيها الذهبي.
حولها الجواري يرقصن
و عبيد يصبون الخمرة.
تضحك و تقول للحكيم:
"انظر.. انظر
إنه وهْم.
سآمر بضرب عنقك
أنت أضعت وقتي
أنت كذبت عليَّ".
* * *

حياة

تقول لي بنت أختي:
"ماذا كنت تحب أن تكون يا خالي
لو لم تكن جئت إلى الحياة إنسانًا؟".
نقطة ماء
يشربها العمال
، في الحر،
يا بنتي.
شمعة، أو بنبونة، أو وردة.
قطعة موسيقى
أيّ قطعة موسيقى
لكنْ لو شهرزاد لكارساكوف
كنت أفرح أكثر.
أغزغزها في بطنها
و أقول:
"نهدك أنتِ حين تكبرين قليلاً".
لا أخجل من أن أكون كلبًا
بشرط ألا أعقر اللص
أنبح عليه فقط
لأجل أن أخيفه.
نسيت أن أقول:
"أو الشوكة التي تحرس الوردة".
الصباح.
و الظلامَ أيضًا.
لئلا اجرح الأعمى.
حشرة
لأنني سأمر بطور الفراشة.
دمعة
لأنني كما سأسيل في الحزن
سأسيل في الفرحة.
رائحة امرأة
لا زجاجة كولونيا.
آه
لماذا، يا ربي، لم تخلقني قُبلة؟!
لن أكذب عليكِ و أقول:
"أحب أن أكون نسمة
تتسلل من أسلاك الأسوار
للنائمين
، على البلاط،
في الزنازن".
هل ترضين أن أختنق أنا ايضًا؟
أن أمر في رئات فتتها السل؟
أن أرتكب جريمةَ
أن يتنفسوا و يعيشوا؟
لو أن هناك امرأة
غاب عنها حبيبها عمرها كله
لو تراكم التراب على شعرها
و هي جالسة
في انتظاره
لو غفت
، في يوم،
من التعب
لو دخل، فجأة، من الباب
لو أن على كتفه عصافير خضراء
لو كانت تغرد لتوقظها
لو أنها صحت
فلم تجده
كنت أحب أن أكون هذا الحلم.
ضحكةً
يضحكها قاتل
يداه ملطختان بالدم.
أريد أن أكون الصرخة
في فم من قتله أيضًا.
لأنه
بدون القتيل و القاتل
، يا بنتي،
لا تستمر الحياة.

* * *


تاريخ القراءة : من 5 ل5 يناير 2013
تقييمى : 5 من 5 نجوم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق